على مدار الساعة

التمرد البناء: قراءة بين السطور لمذكرات رجل الأعمال والسياسي بمب بن سيدي بادي

18 ديسمبر, 2017 - 00:18
السفير عبد القادر ولد محمد

هل يعقل أن يتم التعامل مع من نطح الحاكم الفرنسي لمدينة أكجوجت برأسه منتصرا للزعيم حرمة ولد ببانه رحمه الله وصرخ في وجه أول رئيس للبلد محتجا على هجوم التحالف الفرنسي الأسباني ضد مخيم أهل الشيخ ماء العينين بنفس الأسلوب الذي تعامل به مختلف الأحكام مع الطبقة السياسية مذ انقلاب يوليو 1978؟ لعل الجواب بـ"لا" هو ما جربه على حسابه أكثر من رئيس ومسؤول حكومي سام لموريتانيا. والأكيد أن أهم ما سيمكث في ذهن القارئ لمذكرات الوجه البارز في المشهد الوطني السيد بمب بن سيدي بادي - أطال الله بقاءه - هو الشعور بأن الرجل خلق من طينة العظماء الذين لا يقبلون الإذلال مهما كلفهم من ثمن لتضحيتهم.

 

فخلافا لجمهور الساسة الذي سار على مذهب الولاء والطاعة والمجاملات طبقا لقاعدة موضوعة مفادها أن التذلل عند الحاجة عبادة (وهنا لا أبرئ نفسي) تميز المعارض التاريخي الذي استحق اللقب قبل نشأة المعارضة التاريخية في عقد التسعينيات بقول ما يراه حقا عملا بالمقولة الشهيرة التي تنسب إلى ابن عمه وصديقه الزعيم بوياكٌي.

 

من الواضح جدا أن الرجل العصامي الذي صلبته النكبات والماسي لما قاسي من مرارة الفقر ولوعة الموت الجماعي لأفراد أسرته وألم المرض الذي أدى إلى إعلان خاطئ لوفاته كابد الحياة بثبات المؤمن بعدم إلزامية الذل فيها بعد أن وقف على فرضية الموت.. كما تعامل معها في وقت مبكر بالصبر الجميل وبالتجرد من خشية المخلوقات وبصمود بقية المصيبة التي تلخصها مقولة الحي يرجي..

 

ومن الواضح أيضا أن المصداقية بل الصدق في القول والعمل يبقي أهم عنوان للسرد الممتع لمسار مكتظ بتراكم الأحداث الأساسية في حياة موريتانيا، ولذلك تتعين الإشادة بنشر مثل هذه المذكرات التي جاء ت لتكمل أو لتصحح أحيانا ما ورد في مذكرات أخرى بروايات مختلفة..

 

وفي هذا المضمار لا يسعني إلا أن أعترف شخصيا بتصحيح لمعلومات جمعتها عن الزعيم الوطني حسن الذكر بوياكٌي رحمه الله الذي كان ولا يزال يشكل مركز اهتمامي مذ عهد الطفولة حيث كانت لفظة "الزعيم" تترد كثيرا بمسامعي وعلى وجه الخصوص مذ أيام السلك الإعدادي حيث ربطتني مع نجله الأصغر اعلي رحمه الله علاقة ودية.. قوامها لعبة الشطرنج بالمركز الثقافي السوفيتي... فقبل قراءة المذكرات المذكورة آنفا لم أكن لأصدق الشائعات المتعلقة بضلوع الزعيم في محاولة انقلابية مع أن الانقلابات كانت وقتها من الأمور المعهودة في تغيير الأنظمة السياسية خصوصا أنها كانت حينها مدعومة من توجه إفريقي مناهض للاستعمار الجديد لكن المعلومة التي فاجأتني أكثر تتعلق بضلوع رفاق الدرب من جماعة أهل النهضة المنحدرين من مدينة أطار في التصفية السياسية للزعيم بوياكٌي، وذلك في ما يبدو من المكر السياسي المسكوت عنه في الصورة الوردية التي تشكلت بذهني حول النهضة الوطنية...

 

لقد استطاع الرئيس المختار ولد داداه رحمه الله بذكائه الفائق استخدام رموز التحرر النهضوي ضد زعيمهم ولعل ذلك ما يفسر علاقته القوية بنخبة المدينة التي عرف أهلها قبل الاستقلال وعرف كيف يوظفهم في سبيل توطيد حكمه.. ومن ذلك ما حدثني به بعض كبار المدركين أطال الله بقاءه بأنه بعيد الاجتماع التأسيسي لموريتانيا الذي تم عقده في أطار ذهب ضمن وفد من شباب النهضة إلى منزل الوجيه أحمد ولد كركوب رحمه الله بغية استفهامه حول الطبخة السياسية التي كانت قيد الإعداد فأجابهم بما مفاده أنه لمس لدى الفرنسيين عدم الوضوح لأنهم يسعون إلى أن ينصبوا علينا زاويا أو كما قال "امرابط من أهل بوتلميت" وقد تم نقل المعلومة ساخنة إلى الأستاذ المختار ولد داداه فاستغلها بذكاء وقرر تنصيب الأمير عيده كوالي لآدرار، وهو الأمر الذي قبله أحمد ولد كركوب رحم الله الجميع.. وقد أورد الرئيس المختار هذا التعيين الاستثنائي لقاعدة تعيين الولاة من غير المنحدرين من الولاية المعنية في مذكراته مبررا الأمر بصعوبة التعامل مع "محاربي آدرار".. الأمر الذي يؤكد رواية محدثي..

 

في مثل هذه الظروف التي صاحبت الولادة العويصة للدولة الموريتانية سلك السيد بمب طريق الشرعية الناشئة مع تمسكه بنهج التعددية السياسية الذي بدت ملامح وأده تحت غطاء الحفاظ علي الوحدة الوطنية بادية للعيان، وقد لعب إضافة إلى إنجازاته الكبرى بالمجال الاقتصادي خصوصا عبر إنشاء شبكة وطنية للنقل ثم وكذلك تميزه في بناء المنشآت الأساسية دورا بارزا في الميدان السياسي فصار بجمعه بين عالمي المال والسياسة شخصية استثنائية في حين كانت السلطة تسعي إلى الفصل التام بين جمع المال وتولي الشأن العام وكان التجار ينظرون إلى الدولة بعيون الريبة...

 

وبديهي أن ذلك الواقع تغير جذريا حيث أن العمل السياسي ارتبط فيما بعد برأس المال في علاقة شائكة ما زالت إلى يومنا هذا من الإشكاليات التي يتعين حسمها بضوابط متفق عليها حيث إنه لا يمكن نظريا منع التجار من استخدام نفوذهم لمعارضة النظام القائم ولكن السلطة مهما كانت طبيعتها لن تقبل بسهولة أن يتم استخدام المال ضدها... ولعل التصرف اللين لحكم الأستاذ المختار ولد داداه تجاه كبار التجار المناهضين له ناجم بالإضافة إلى كياسته الشخصية عن الحاجة الماسة حينها إلى استثمارهم في ظرف كانت الموارد الوطنية شحيحة إلى حد الغاية... وقد ولى ذلك الزمان واندثرت أخلاقه...

 

وبالجملة، كثيرة هي المواضيع المثارة في مذكرات رجل الأعمال والسياسي السيد بمب ولد سيدي بادي وقد لا يتسع المقام لذكرها كما لا يتسع للوقوف علي مختلف المحطات التاريخية التي تضمنتها، وربما تستدعي كل هذه المواضيع والمحطات أكثر من مقال بل عدة حلقات من البحوث والنقاش.. لذلك سأركز إضافة لما سبق ذكره على بعض النقاط مع لزوم ما يلزم من واجب التحفظ..

 

ولعل من النقاط التي قد تبدو هامشية نقطة تتعلق بتوظيف الدين في الصراعات السياسية بين الأهالي حيث قام الناشطون الموالون للزعيم حرمه بن ببانه في ولاية إينشيري بإصدار "أول فتوى سياسية" في معترك انتخابي تتصارع فيه فئتان من الموريتانيين المؤمنين.. وتشكل تلك الفتوى التي وقعها علماء من مجموعة "أهل محمد سالم" الأهلية - رغم ما يعرف من ورع لدى موقعيها - إشكالا يتمثل في إسقاط النصوص الفقهية على حسابات سياسية معقدة، وهنا تجدر الإشارة إلي أن تصرف الإدارة الفرنسية التي عاقبت حاكم أكٌجوجت لتدخله لصالح المرشح سيدي المختار ولد يحي انجاي رحمه الله بالانتخابات طبقا لما ورد في مذكرات السيد بمب ولد سيد بادي يؤكد ضمنيا ما ذهب إليه الأستاذ المختار ولد داداه في مذكراته حين قال "إن الإدارة الفرنسية تواطأت مع الزعيم حرمه" والحقيقة أن صراعات سياسية بين الحكم المركزي في باريس والإدارة الإقليمية في دكار كانت وراء تناقض مواقف السلطة الاستعمارية بخصوص تلك الانتخابات المحلية، ومهما قيل فإن إقحام فتاوى الفقهاء في صراع سياسي قد لا يفقهون خلفياته ما زال إلى يومنا هذا من إشكاليات السياسة في موريتانيا.

 

ومن ضمن الإشكاليات التي ما زالت أيضا تخيم على عالم السياسة عندنا توجد ما يعرف اصطلاحا بالمسالة الوطنية التي صارت من منتصف عقد الستينيات تطلق علي صراع لغوي نجم عن تناقض المصالح بين نخبتين إحداهما فرانكوفونية مشكلة أساسا من إخوتنا المثقفين الزنوج (كم أكره هذا المصطلح الغريب علينا!!) ترى في التعريب نية مبيته لإقصائها وأخرى ترى فيه خيارا وطنيا لا ينكر ضرورته إلا عميل دخيل على المجتمع الموريتاني، وقد تم زج السيد بمب بن سيد بادي في السجن رغم براءته من أحداث 66 الأليمة بسبب علاقته بالزعيم بوياكٌي، ونتيجة لدفاعه عن القومية العربية وبذلك صاحب في مساره التيار التأسيسي للحركة الوطنية الديمقراطية التي ولدت من رحم سجن انبيكه... لقد أعجبني الموقف الذي عبر عنه بصراحته المعهودة حين قال إن تعلقه بالعروبة منعه من قبول حجج الإخوة الزنوج (لكور) الرافضة للتعريب.. وكيف لا وهو الصادق مع هويته الذي صدح بقومتيه العربية وبإعجابه بعبد الناصر أيام العدوان الثلاثي على مصر؟

 

يبقي أنه إضافة إلى هذه العروبة السياسية تحدث الكاتب بين السطور عن عروبة من نوع آخر لا شك في شهامتها تطلق عندنا بغض النظر عن الخلاف حول الأنساب على "حملة السلاح" لتميزهم عن الزوايا الذين تفرغوا للعلم في تقاسم اجتماعي للأدوار وقد طغلا الصراع بين الفئتين في المشهد السياسي مذ عهد فرق تسد الاستعماري ولا زالت حتى اليوم مخلفاته قائمة في بعض الأذهان في الوقت الذي تجاوزه الزمان حيث إن حراكا سياسيا من فئات صاعدة يطالب بأصوات متصاعدة بإنهاء احتكار السلطة السياسية من طرف الفئتين في مشهد دراماتيكي لا سبيل للخلاص منه إلا بواسطة توطيد دولة القانون والمؤسسات من طرف أجيال المستقبل...

 

ويبقي أن المراهنة على المستقبل بواسطة معارضة جسدها الكاتب بسلوكه المتميز وبفعله الدؤوب للخير - جزاه الله خيرا - تتطلب قراءة جديدة متجددة للمشهد السياسي تجمع بين التمرد البناء الذي طبع مسار صاحب المذكرات بوصفه اليوم - أطال الله بقاءه - أكبر معارض تاريخي وطول النفس الذي طالما افتقدته المعارضة التاريخية حيث إنها استعجلت أكثر من مرة الوصول إلى السلطة مرتكبة الأخطاء التي استغلتها الأنظمة القائمة من موقف القوة... ومن أخطاء التقييم السياسي التاريخي الاعتقاد أن الإطاحة العسكرية بالنظام المدني سنة 78 كانت خطا لا يغتفر فمعلوم أن الحكم حينها كان لقطة... وكان حكمه من ضاع له شيء؟ ومن أخطاء التقييم السياسي كذلك الاعتقاد بأن القوى الأجنبية تقف حتما وراء انقلابات الجيش على السلطة فالانقلاب لا يمكن أن ينجح إلا إذا كانت توجد ظروف داخليه تبرره بل تدعمه ومعلوم أن دعم السلطة المتغلبة لا زال - شئنا أم أبينا - من أهم ميزات الطبقة السياسية الموريتانية، وأن المعارضة التاريخية كثيرا ما خسرت حين حاولت منافسة السلطة في استخدام الأوساط القبلية كما حصل مذ انطلاقة المسلسل الديمقراطي في بداية التسعينيات طبقا لما أورده السيد بمب ولد سيد بادي في مذكراته وعليه فان الشباب الموريتاني الذي يطمح إلى ترسيخ الديمقراطية في المستقبل مطالب بالتحرر من تلك المسلكيات... ويبقي الطموح إلى الرئاسة في نهاية المطاف غاية شخصية قد لا يوفق طالبها في نيلها.. وعسي أن يكون ذلك خيرا له طبقا لرغبة والدة الكاتب ميمونة منت ارحيل رحمها الله الصالحة المعروفة بالإحسان والكرم التي لم ترد لأبنها "أن يأتي يوم القيامة مطالبا بحق إنسان واحد وكيف بحقوق كل الموريتانيين؟".

 

نقلا عن صفحة الكاتب على فيسبوك

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ملاحظة: صدرت مذكرات رجل الأعمال والسياسي بمب ولد سيدي بادي بداية شهر ديسمبر الجاري عن وكالة الأخبار ضمن مشروعها الذي أطلقته قبل سنوات تحت عنوان: "هذه تجربتي"، وهي ثاني إصداراته بعد مذكرات الرئيس الأسبق محمد خونه ولد هيدالة، كما توجد تجارب أخرى طور الإعداد لشخصيات من جيل التأسيس في موريتانيا.