على مدار الساعة

أوراق الربيع (26) الأزمة الخليجية في مرآة القِيَم العربية

15 نوفمبر, 2017 - 16:23
د.محمد المختار الشنقيطي

اتّسمت الثقافة العربية بعدد من القيم الاجتماعية الرفيعة، الضاربة الجذور في التاريخ العربي السحيق، تغنَّى بها الشعراء، وتنافس في التخلّق بها الكبراء. ومن هذه القيم: الشجاعة، والكرم، والعزة، والصدق، والذمام، والجِوار، والسؤدد، وصيانة العِرض، والترفع عن الخيانة والغدر، والإباء عن الضيم، واحترام الزمان المقدَّس والمكان المقدَّس.

 

وقد لاحظ الفيلسوف الياباني توشيهيتو إيزيتسو في دراسته عن "المفاهيم الأخلاقية والدينية في القرآن" كيف حوَّر الإسلام دلالة القيم العربية، فمنحها عُمقا ورحابة. وخصص إيزيتسو فصلا من كتابه لهذا الموضوع بعنوان: "أسلمة الفضائل العربية العتيقة"، أوضح فيه كيف رسَّخ الإسلام هذه القيم ورشَّدها، وشذَّبها من مواريث العصبية الجاهلية، ووسَّع معناها ومبناها، حتى اكتسبت دلالة إنسانية كونية.

 

وتستعرض هذه الورقة من أوراق الربيع طرفا من القيم العربية، وتختم بوضع الأزمة الخليجية في مرآة هذه القيم، تبصرةً وذكرَى. ولكي نضع الأمور في نصابها، وتجنبا لأي تهمة لنا بالمركزية القومية أو الثقافية، أو بالتحيز للعرب دون غيرهم من أبناء الأسرة الإسلامية والإنسانية الكبرى، نبدأ بالتأكيد على ما ذكره الأديب الفيلسوف أبو حيان التوحيدي من تقاسُمِ الفضائل والرذائل بين كل البشر، وتوزُّعها بين كل الأمم، فقد كتب أبو حيان بأُفق إنساني رحب يقول:

 

"لكلّ أمّة فضائل ورذائل، ولكلّ قوم محاسن ومساوء، ولكلّ طائفة من الناس في صناعتها وحلّها وعقدها كمال وتقصير، وهذا يقضي بأنّ الخيرات والفضائل والشرور والنقائص مُفاضة على جميع الخلق، مفضوضة بين كلّهم: فللفرس السياسة والآداب والحدود والرسوم، وللرّوم العلم والحكمة، وللهند الفكر والرويّة والخفّة والسّحر والأناة، وللتُّرك الشجاعة والإقدام، وللزّنج الصبر والكدّ والفرح، وللعرب النّجدة والقِرى والوفاء والبلاءُ والجودُ والذِّمام والخطابة والبيان... فقد بان بهذا الكشف أنّ الأمم كلّها تقاسمت الفضائل والنقائص باضطرار الفطرة، واختيار الفكرة" (أبو حيان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة).

 

ولأن الشعر هو سِجّل قيم العرب ومآثرهم فسنعتمد الشعر مصدرا للقيم العربية هنا، وقد لاحظ الجاحظ مركزية الشعر في حفظ القيم العربية، فكتب: "كلّ أمّة تعتمد في استبقاء مآثرها، وتحصين مناقبها، على ضرب من الضروب، وشكل من الأشكال. وكانت العرب في جاهليّتها تحتال في تخليدها، بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون، والكلام المقفّى، وكان ذلك هو ديوانها" (الجاحظ، كتاب الحيوان).

 

أما الكرم فكان أمَّ الفضائل وجذرَها عند العرب، خصوصا إذا تعلّق الأمر بإكرام الضيف. ويكفي أن نذكر في هذا الباب حاتم الطائيَّ الذي اشتهر بين العرب بالكرم حتى ضربوا به المثل في ذلك. وكان حاتم يأنف من أكل الطعام دون ضيف أو جارٍ  يؤاكله، وفي ذلك يقول لزوجته:

إذا ما صنعتِ الزاد فالتمسي له   /    أكيلًا فإني لستُ آكلَه وحــــــْـــــــــــــــــــــــــــــدي

أخًا طارقًا أو جارَ بيـــــــتٍ فإنـــــــــــــــــــــــــني   /  أخاف مذمَّاتِ الأحاديث من بعدي

 

كما كان حاتم يحضُّ خدَمه على إشعال النار وضَّاءة في ليالي الصحراء المُعْتمة، لاجتذاب الضيوف إلى مضارب قومه. وقد وعد خادمه بالعتق إذا اجتذبت نارُه ضيفا، فقال:

أوقِدْ فَإِن اللَّيْل ليلٌ قـِــرُّ    /  وَالرِّيح يا غـلامُ ريـــــــــــــحٌ صِـــــــــــــرُّ

 عَسى يرى نارَك من يمرُّ    /  إِن جلبتْ ضيفا فَأَنت حُرُّ

 

وحينما مدح حسان بن ثابت الخزرجي ملوك الغساسنة في الشام كان إكرام الضيف في صدْر سُلَّم القيم التي أثنى بها عليهم، ودلَّل على ذلك بأن كلابهم أصبحت هائدة، لا تنبح في وجه الغريب، لكثرة ما يغشاهم من الضيوف والوافدين، الطامعين في نوالهم:

لله در عصابة نادمــــــــــــــــــــــــــــــتُـهم  /   يوما بجلَّقَ في الزمــــــــــــــــــــــــان الأولِ

يُغشَون حتى ما تهرُّ كلابُهم   /  لا يَسألون عن السواد الـمُقبـلِ

 

ويقال إن أبلغ بيت قالته العرب في الكرم هو قول زهير بن أبي سُلمى المزَني:

تراه إذا ما جئته متهلــِّـــــــــــــــــــــلًا   /   كأنك تعطيه الذي أنت سائلهْ

 

وأما الشجاعة فيكفي شعر عنترة بن شداد العبسي، وقوله:

ولقد ذكرتك والرماح نـــــــــواهـــــــــــــــــلٌ  /   مني وبِيض الهند تقطر من دمي

 

وأما العزة والسؤدد، فقد جسَّدهما همَّام بن غالب التميمي، المشهور بالفرزدق، في بيتين من لاميته، وآخريْن من فائيته، وهما قوله:

إن الذي رفع السماء بنى لنا   /   بـــيتًا دعائمُه أعزُّ وأطـــــولُ

بيتًا بناه لنا المليك ومـــــــــــــــــا بنى   /   حَكَمُ السماء فإنه لا يُنقلُ

 

وقوله:

إذا هبط الناس المحصَّب من مِـــــــنًى   /  عشيَّةَ يوم النحر من حيث عرَّفـــــوا

ترى الناس ما سِرْنا يسيرون خلفَنا  /  وإن نحن أومأْنا إلى الناس وقَّــــــفوا

 

وأما صيانة العِرض فيكفي فيها قول عنترة:

إِنّي اِمرُؤٌ سَمْحُ الخَليقَةِ ماجِدٌ    /    لا أُتبِعُ النَفسَ اللَجوجَ هَواها

وَأَغُضُّ طَرفي ما بَدَت لي جارَتي    /   حَتّى يُواري جارَتي مَـــــأواهــــــــــــــــــــا

 

وأما رفض الظلم والإباء عن الضيم فمن أبلغ ما قالت العرب فيه قول عنترة:

أَثْنِـي عَلَيَّ بِمَا عَلِمْتِ فإِنَّنِـــــــــــــــــــــــي  /  سَمْـحٌ مُخالطتي إِذَا لم أُظْلَـمِ

وإِذَا ظُلِمْتُ فإِنَّ ظُلْمِي بَاسِـلٌ   /  مُــــــــــــــــــرٌّ مَذَاقَتُـهُ كَطَعمِ العَلْقَـمِ

 

ومثله قول الملتمس الضبي الذي حصر مَن يَقبلون الظلم والضيم في صنفين: الحمار الذي يُضرب فلا يشكو ولا يتمرد، والوتد الذي يتصاغر ويغوص في الأرض كلما ضُرب على رأسه:

ولا يقيم على ضيم يرادُ به   /    إلا الأذَلَّان عَيـْرُ الحيِّ والــــوتـَدُ

 

وأما الجوار والذِّمام فقد أحسن السموأل بن عادياء الأزدي في فَخاره بوجود هاتين الخصلتين في قومه، على قلة عددهم، فقال:

تعيّرُنا أنَّا قليلٌ عديدنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا   /    فقلتُ لها: إن الكرام قليلُ

وما ضرَّنا أنّا قليل وجــــــــــــــــــارنا   /   عزيز وجار الأكثــــرين ذليــــــلُ

 

ومن أعظم القيم العربية قيمة الصدق، وقد مدح دريد بن الصِّمَّة الهوازني أخاه بذلك في رثائه له، فقال:

وهوّن وجدي أنني لم أقل له   /   كذبتَ، ولم أبخلْ بما ملكتْ يدِي

 

ومن القيم العربية الجميلة التي نحتاج تذكير أنفسنا بها اليوم ترفُّع أكابر العرب عن الغدر، ولو بعدوٍّ غافل. وقد أحسن شاعر حلب وفارسُها أبو فراس الحمداني التعبير  عن هذا المعنى، فقال:

ولا أُصْبِح الحيَّ الخَلوف بغارةٍ   /   ولا الجيشَ ما لم تأته قبليَ النُّـــذْرُ

 

وكان العرب يرون الشرف في مواجهة العدو وجها لوجه، ويأنفون من طعنه في الظهر غدرا وعلى حين غِرَّة، كما كانون يأنفون من أن يكون أحدهم مطعونا في الظهر، لأن ذلك يوحي بأنه طُعن مُدْبرا لا مُقْبلا. ومن أحسن ما قيل في هذا المعنى قول الحصين بن الحُمام المرِّي:

ولسنا على الأعقاب تدْمَى كلومُنا  /  ولكنْ على أعقابنا تقْطر الدِّمــــــــا

 

وأذْكر حين كنتُ طالبا بجامعة تكساس أن أحد الأساتذة الأميركيين كان يدرِّسنا مادة بعنوان "عصر الفروسية" (Age of Chivalry)، وهي مادة عن قيم الفروسية والفتوَّة في أوروبا، ما بين القرن العاشر والثالث عشر الميلادي (أتمنى لو عندنا مثلها اليوم في الجامعات العربية). فذكر الأستاذ أن من عادتهم أنهم كانوا إذا وجدوا الفارس قتيلا وجرحُه في قفاه قلبوا جثمانه بسرعة، وضربوه بالسيف على وجهه أو صدره، تسترا على سمعته وكرامته، لأن الجرح في القفا دليل على الفرار أمام العدو. فذكرتُ للأستاذ أن العرب سبقوهم لهذا المفهوم، وترجمتُ له بيت الحصين بن الحُمام المرّي، فتعجَّب من شبَه قيَم الفروسية عند العرب والأوروبيين آنذاك.

 

ومن أحسن تقاليد العرب في الجاهلية والإسلام احترامُ الزمان المقدَّس والمكان المقدَّس، فقد كانوا يعتبرون السقاية (توفير الماء للحاج) والرفادة (إطعام الحاج) شرفا يتنافسون فيه، وحقا للحجيج لا مِنّة فيه. وكانوا يحرِّمون القتال في البلد الحرام والمسجد الحرام والأشهر الحُرُم، حتى إن أحدهم ليرى قاتل أبيه في الحرم فيتجنبه. وقد وسَّع الإسلام ضمن ما وسَّع من القيم العربية مفهوم المكان المقدَّس والزمان المقدَّس، فلم يَعُد البيت بيتا واحدا، بل بيتان: أحدهما في مكة وهو المسجد الحرام، والآخر في القدس (إيلياء) وهو المسجد الأقصى. وإلى ذلك أشار الفرزدق في قوله:

وبيتان بيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتُ الله نحن ولاتـــــُـــــــه   /   وبيتٌ بأعــــــلى إيلياءَ مــــــــــــــــــــــــــشــــــــــرَّفُ

 

إن اتخاذ هذه القيم العربية مرآة للسلوك السياسي والإعلامي المصاحب للأزمة الخليجية الحالية يكشف عن مفارقات محزنة: فبدلا من الشجاعة كان الغدر المبيَّت بليْلٍ، وبدلا من الكرم والجوار والذمام كان التضييق على الجار الشقيق ونقض العهود والعقود، وبدلا من  صيانة العِرض كان قطع الأرحام والطعن في الأنساب والأحساب، وبدلا من احترام المكان المقدَّس والزمان المقدَّس كان التضييق على زوار البيت الحرام، وانتهاك حرمة شهر الصيام، ثم المجاهرة بالتحالف الإستراتيجي بين مَن استرعاهم الله والمسلمون البيت الحرام، ومَن يحتلّون القدس الشريف والمسجد الأقصى "المشرَّف" بتعبير الفرزدق.

 

ولولا ما تثبَّث به أهل قطر من قيم رفيعة في تعاملهم مع مواطني دول الحصار، وفي ترفُّعهم عن المعاملة بالمثل، وفي اعتزازهم بأنفسهم في ساعة العسرة.. لقرأنا الفاتحة على رُوح هذه القيم الأصيلة. فهل تفلح هذه السياحة في أخبار العرب وأشعارهم في تذكير أبناء الجزيرة العربية بالقيم العربية؟!