على مدار الساعة

الطريق إلى تيشيت!

23 أكتوبر, 2017 - 12:23
خالد الفاظل ـ كاتب ومدون

على متن الخطوط الأرضية، سيارة يشبه تصميمها شكل سيارات الإسعاف، إذا رأيتها من بعيد قد تحسبها مركبة فضائية متعطلة، وإذا اقتربت منها تجدها كباصات الغجر التي يتخذونها مساكن لهم ويرتحلون عليها.

 

حوضها مخصص للأمتعة السائلة والصلبة والركاب وكل الأجسام الجامدة والمتحركة، رحلاتها اسبوعية، وإذا ما فاتتك، فعليك أن تنتظر عدة أيام وربما أسبوع..

أثمن شيء يجب أن تتزود به عند الانطلاق والخروج من ضفاف القرن الواحد والعشرين: هو الماء والنور!، لأن الطريق طويلة وتكثر ليلا على ترابها البيضاء؛ الأفاعي والعقارب، والشبكة تتقطع في معظم أوصالها، أما تلك التجمعات الموجودة في الطريق فهي بعدد أصابع اليد.

انطلقا بعيد صلاة المغرب، اثنان مع السائق صدام الذي يقود السيارة، وأنا وخمسة في الحوض الخلفي، ومعنا البصل والطماطم والسمك والطباشير، وفوق رؤوسنا على سقف السيارة متاع ثقيل تنوء بحمله قوافل قريش في رحلات الصيف والشتاء..

بدأ المعلم المتخرج حديثا، والقادم من أعماق موريتانيا يتلو أذكار المساء، وعيناه تحملق هنالك فيما وراء زجاج السيارة مثل عصفور حزين داخل القفص. عن يساري جلس رجل ملثم يضع نظارات سوداء رغم الظلام، لم ينبس ببنت شفة طيلة الطريق، ولم أرتح لهدوئه المريب وصمته، في الجهة الأخرى هناك موظف حكومي متذمر للغاية، يتشاجر مع الريح إن هي هبت، ويعاتبها أيضا إن هي توقفت، كان يلعب دور المجرب العارف بتضاريس المحن ويحاول رغم انزعاجه الواضح من كل شيء-تارة من تكديس المزيد من الأمتعة الثقيلة، وتارة أخرى من تباطؤ انطلاق الرحلة-أن يزرع بعض ورود السكينة في قلب المعلم ويفزعه أيضا في نفس الوقت من مصيره.

أما بقية الركاب؛ فهما شابان، كانت وضعيتهما تتأرجح ما بين الضحك والنوم طيلة الرحلة، إنهم يعيشان اللحظة ولا يكترثان للصعاب. اقترح السائق المغوار صدام أن نأخذ بعض الدجاج والماكروني لإعداد العشاء، وضريبة ذلك 500 أوقية، تأفف المعلم من ذلك الاقتراح، بحجة أنه يتعفف عن أكل تلك الديوك المستوردة والمشكوك في حليتها، قال له القائد الهمام صدام: " إن السفر إن كانت وجهته معروفة، فإن وجهة الأقدار لا أحد يعرف مآلاتها، قد تتعطل السيارة، والخروج عن رأي الجماعة ليس مستحبا ".

 

أخرج كل منا مساهمته، وذابت نقودي المتبقية في زحمة الحسابات المتداخلة. خرجت سيارتنا بصعوبة من تجگجه كما يخرج الوليد من بطن أمه، كأن ملاك السيارة كانوا يودون حمل مدينة تجگجه معهم إلى تيشيت. عندما لمعت مصابيح قرية تنتملل بدأت مخلاتي البلاستيكية المعبأة بالماء والحليب والعصائر والمأخذوة مباشرة من عمق الثلاجة تسخن، بسبب تصاعد الحرارة من جوف السيارة نظرا لتبادل المكابح السريع والقوي الذي يقوم به وبكل مهارة السائق صدام، الذي أشغل نفسه في المدائح حينا وحينا في الصفير، ووسط ضبح عجلات السيارة فوق الرمال الوعرة، وقدحها فوق تلك الحجارة المسننة، كان ذلك الصوت القادم من ماكينة السيارة يشبه خوار قطيع من الثيران يتم ذبحه بتفاوت وبكل قسوة..

بسبب رائحة بعض البصل المتعفن أصبت بالغثيان وكنت عرضة للإصابة بالميد، لولا أنني أخرجت أنفي من فتحة النافذة حتى يستنشق هواء الصحراء النقي، عند مدخل الگاوية توقفنا لدقائق جهة عريش المرأة المضيافة تويت التي تمتلك جهاز اتصال لا سلكي(رك) قديم جدا حسب أحد الركاب، كانت تضاريس الأرض مغطاة بنباتات " أم ركبة " وصخور صغيرة وحادة وأحيانا تتحول إلى رمال رخوة، مررنا بأم لخشب قبيل منتصف الليل، لم نتفرس ملامحها بسبب الظلام، استسلم الركاب للتعب وبدأت رؤوسهم تتمايل جهة الانحناء كأعلام منكسة من شدة النعاس وتنمل الأطراف.

 

عند حدود الساعة الثانية فجرا وصلنا لگويعة وبها عريشان مجهزان بالوسائد والأسرة يشرف عليها رجل يدعى امبارك، يشبه في وحدته توم هانكس في فيلمه الذي سكن فيه بجزيرة معزولة، كان قدوم سيارتنا بالنسبة لمبارك ممتعا وباعثا على السهر والحديث. ذهب الشابان المرحان مع صدام لطهو وجبة العشاء، بينما ارتمينا نحن على الفراش كجنود مثخنين بالجراح، شعرت بالذنب عندما دعاني الرجل الصموت والملثم حينما نزع النظارات عن عينيه وطلب مني تقطير الدواء فيهما، لقد ظلمته عندما حسبته مريبا، بينما كان يعاني مشاكل صحية في عينيه، فعلا إن بعض الظن إثم.

دخلنا غفوة رغم قصرها إلا أنني أجزم بأن كل محتويات جسدي خلالها نامت حتى دماغي وروحي، أيقظونا منها بعد ساعة على مكروني ساخنة ولذيذة للغاية، ورأيت أصابع زميلي المعلم تنهمك في الدجاج المستورد، فعلا عند أوقات الحاجة تتداعى كل أسوار الممانعة المثالية.
عدنا للنوم، ورغم سماعي لحتكاك كؤوس الشاي هنالك عند صدام ورفاقه في العريش الآخر، إلا أن النوم في ذلك الوقت البارد كان أحلى عندي بكثير من الشاي..

عند الخامسة قبيل صلاة الفجر، واصلنا المسير وسط الرمال الرخوة المغطاة بشجيرات أصباي، كانت السماء فسيحة وكنا شهودا على ولادة يوم جديد داخل فلاة لا ترى فيها إلا قطعان الأبل وآثار الرياح..

كانت الشمس الذهبية تتسلق التلال المحيطة بجبال زيك التي تبعد عن تيشيت 35 كلم، في تلك المجابة الرملية الوعرة، رفعت عمامتي للسائق صدام وهو يغالب تعرج الطريق وفجائية ظهور الأورام الترابية فيها. عندما بدأت رؤوس سلسلة الجبال المتدثرة بالرمال الذهبية تظهر عن يسار سيارتنا، فاصلة بذلك بين ظاهر تگانت وباطنها الذي تقع فيه تيشيت، اشرأبت أعناقنا تطلب تيشيت غير أنها كانت تبتعد ولا تدنو مثل السراب، حتى خيل إلي بأن مدينة تيشيت مجرد خرافة ولا أثر لها، أو أننا ضللنا الطريق إليها، عند حلول الثامنة والنصف صباحا؛ بدأت ملامح التربة تتغير، عندما ظهرت تربة رمادية مغطاة بصفائح صغيرة من الحجارة الملساء، تتناثر فيها آبار وأعجاز نخل خاوية سرعان ما تحولت إلى باسقات نخل خضراء تلون الأفق، ومن وراءها؛ ظهرت منازل المدينة تتوسطها منارة المسجد العتيق، كانت المنازل عالية جدا كأنها تتوسد تسعة قرون؛ عمر مسجدها، أو ربما تسعة آلاف سنة ظهور البشر فيها.

 

استدارت السيارة ويممت وجهها شطر كتيبة الدرك لتعلمهم بوصولها، عندها رأيت مطار المدينة الأحمر، والطبيعي، والذي نحتته عوامل التعرية وجعلته ناعما، ومهبطا آمنا للطائرات الصغيرة والمروحيات، من خلفه ظهرت أرض مستوية بيضاء، إنها سبخة الملح، التي إلى الآن، لا تزال الجمال تحمل منها " مرسال " وتذهب به لمدينة لعيون، قاطعة بذلك أرض آوكار في رحلة تستغرق ثمانية أيام، ربما أذهب معهم في عطلة ديسمبر.

 

عدنا لقلب المدينة الذي ظل ينبض منذ مئات السنين، والذي يحتوى على الكثير من أسرار التاريخ ونفائس الكتب، إنها مدينة قرآنية بامتياز، فقلما يخلو منزل فيها من محظرة، في مسجدها الذي تأسس 536 للهجرة والمحاط بالممرات الضيقة صليت الجمعة الأولى لي في مدينة تيشيت، تذكرت الجمعة الماضية والتي صليتها في مسجد يقع ناحية السفارة الفرنسية في نواكشوط، والجمعة التي قبلها؛ والتي صليتها في جامع المختار في مدينة بنزرت شمال تونس، أسبوعان فقط، ارتحلت فيهما مثل الطيور المهاجرة، فعلا؛ لا أحد يعرف وجهة الأقدار مثلما قال السائق صدام.

من نام ليلة واحدة في تيشيت، في جوها الخالي تماما من التلوث السمعي وروائح القرن 21 تلاشت في دمه رواسب سنوات طويلة من النصب والتعب، وانتعش باله من وعثاء الهموم والقلق، لكنه عندما يستيقظ؛ سيغرق في بحر من الرتابة لا ساحل له، لا ترى فيه إلا السيدة E الكسولة والشاحبة، لكن هذه الحياة قصيرة، وليست دار متعة سرمدية، يجب أن نقوم فيها بأشياء مفيدة غير اتباع الهوى والأحلام البنفسجية..

المنشور طويل ووعر كطريق تيشيت تجكجه البالغة 220 كلم على التراب تقريبا، لكنها مع ذلك مدينة تستحق أن تضرب لها أكباد الأبل وماكينات رباعيات الدفع..

بعد 24 ساعة من محاولة النشر، يبدو أن الوقت المناسب لذلك هو ثلث الليل الأخير.

هنا تيشيت، الساعة 04:59 فجرا، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.