لا أحد يحب أن يكتب عن نفسه بهذه الطريقة، ولكنني بحثا عن المصداقية سأكتب عنها، ففي بداية تسجيلي للدكتوراه - التي لم أكمل - كنت أشعر بفخر كبير حين يناديني فرد من عائلتي بالدكتور خصوصا الأفراد الأصغر سنا.
مع مرور الوقت وتلاحق خيبات الحصول على وظيفة صار لقب الدكتور يزعجني كي لا يظن الصغار من أفراد عائلتي أن مصير الدكاترة بهذه الطريقة.
الآن، حين أحدث أحد أقربائي الناجحين لتوهم في الباكلوريا عن مسيرتي الدراسية أخبره أولا أنني لم أنجح في كلية الطب، وأخفي عنه حصولي خلال مسيرتي الدراسية على شهادات بتقدير جيد أو مستحسن، ببساطة كي لا يربط بين التفوق والبطالة.
قبل أيام التقيت بزميل لي من زمان كلية العلوم، وكأي زميلين قد جمعتهما الدراسة يوما ما تبادلنا معلومات عن بقية الزملاء، سألته عن صديق مشترك كان بارعا في الفيزياء واللغة الانجليزية، كنت أتوقع أن يكون له شأن كبير لكنه رد بكل عفوية: "امسيكين عاد معلم"، نحن الأمة الوحيدة التي يمكن لمثقف فيها أن يقول: "امسيكين عاد معلم"، فكل الأمم تحترم المعلم وتنظر إلى مهنة التعليم على أنها مهنة نبيلة مريحة ماديا، ومفيدة للمجتمع، فرحم الله زمانا كنا نحترم معلمينا ونراهم قدوة لنا.
في الماضي القريب كانت للطبيب وخصوصا الأخصائي مكانة مرموقة في المجتمع ولكن من شاهد صور الأطباء النائمين على بلاط وزارة الصحة، يوم استماع وزير تمكين الشباب للفاشنيستا، يستطيع أن يتوقع المكان الذي يحجزه المعلم بجانبه لأخيه الطبيب في أسفل السلم.
أحيانا دون أن أقصد أركن سيارتي في مكان محدد بساحة المقهى الذي أجلس فيه، وهو ذات المكان الذي يركن فيه أستاذان جامعيان سياراتيهما، حين اكتشفنا الأمر علق أحد الأصدقاء مازحا أننا في عقولنا الباطنة نخفي سياراتنا عن بقية السيارات ذات الموديلات الأحدث التي من بينها سيارات فارهة يوقفها أصحابها - استعراضا - بين الطاولات في القهوة، أذكر من بين هؤلاء الذين يوقفون سياراتهم بكل بداوة بين الطاولات أحد مشاهير نواكشوط الجدد.
لا أريد أن أواصل بهذه التراجيديا ولكني أحاول التقديم لموضوع دون اللجوء للجمل والفواصل التقليدية.
إن الخلل المجتمعي في اختيار القدوة الحسنة والنموذج المناسب يعود لعدة أسباب منها:
- الفساد بكافة مشتقاته من وساطة ومحسوبية وحكامة غير رشيدة، هذه المشتقات تؤدي في النهاية إلى نتيجة واحدة وهي الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب،
- غباء كل السياسات الاقتصادية سواء التي رسمت على الأمد البعيد أو على المتوسط أو القريب، هذه السياسات تهمل عن جهل أو عن قصد الاستثمار في العنصر البشري وتأبى بشكل مستفز وضع الموظف في ظروف حياتية مقبولة تجعله يمارس عمله بكل بكرامة.
- الرضوخ الساذج لكل شروط الممولين الدوليين والتي تصب أغلبها في خانة إذلال المواطن وتفقيره،
- جمود المناهج التربوية التي لا تشجع على التميز والإبداع وإنما تحث حثا على حفظ نظريات ونصوص في العلوم العصرية والآداب قد أخنى عليها الذي أخنى على لبد،
- وجود قطاع خاص معظم أباطرته أنصاف أميين فنحن الدولة الوحيدة تقريبا التي يفكر فيها رجل الأعمال بذات العقلية التي يفكر بها "مول البوتيك"،
- احتفاء المجتمع بالأثرياء بغض النظر عن مصدر ثرائهم وقسوته مع الفقراء بغض النظر عن قيمتهم في المجالات الأخرى غير المال،
- احتفاظنا ببعض العادات التي تصلح "للفركان" لكنها لا تصلح للمدن العصرية، ومنها عادة التفاخر بالغنى الزائف، وبالبذخ الذي يؤدي إلى ديون في المستقبل أو يجر لسؤال الناس لاحقا،
- غياب الاهتمام بالصحة النفسية فربما هنالك كثير من المرضى النفسيين يعيشون بيننا،
- غياب التوعية الاجتماعية عن طريق منهاج التعليم والمسرح الهادف ووسائل الإعلام،
- الاستخدام السلبي لوسائل التواصل الاجتماعي التي نستخدمها للترفيه ولترسيخ العادات البدوية الضارة والترويج لنمط من العيش المادي الاستهلاكي وإظهار نماذج من الذين لا يستطيعون قول جملة مفيدة.
الحل: يكمن الحل في:
أولا: العمل على إيجاد طبقة وسطاء متعلمة ومحترمة تشكل نسبة كبيرة من الموريتانيين،
ثانيا: يجب أن تتخذ الدولة إجراءات تجرم هدر الموارد وإشاعة التبذير بكل أشكاله، وذلك من خلال إدخال نظام الفاتورة لمعاملات البيع والشراء لكي نتمكن من سؤال أي شخص حين يتجاوز استهلاكه دخله،
ثالثا: النظر بجدية في مسألة موازنة الأجور ومتطلبات الحياة الكريمة،
رابعا: إعطاء ميزات للأساتذة الجامعيين والأستاذة في الثانويات والمعلمين، وغيرهم من مقدمي الخدمات الأساسية للمواطن، هذه الميزات تُعْطَى بطريقة ترد لهؤلاء بعضا من هيبتهم وقيمتهم المجتمعية،
خامسا: وضع حد للارتفاع المذهل لأسعار التعليم الخصوصي الذي سيؤدي - إذا لم ينظم - إلى تقسيم المجتمع لقسمين: أغنياء متعلمون وفقراء غير متعلمين،
سادسا: التصدي لكل الممارسات التي تخدش الحياء في الأماكن العمومية، بالإضافة إلى فرض الآداب والسلوك السليم في الشارع العام.
نحن ولله الحمد شعب مسلم ومتسامح، وبالتالي حين نفسح المجال للفقهاء والعلماء وخطباء الجمعة ونجعلهم يتصدرون المشهد ويوجهون الرأي العام سنعالج إن شاء الله كافة أمراض مجتمعنا.
هذا الدور يجب أن تقوم به وزارة التوجيه الإسلامي ورابطة الأئمة والخطباء ومجلس الفتوى والمظالم.
حفظ الله موريتانيا