على مدار الساعة

أيامي مع الشعر(10).. مع محمد عاكف أرصوي

15 نوفمبر, 2022 - 16:46
الدكتور محمد المختار الشنقيطي

اهتممت -كما اهتم كثيرون غيري من الشباب الإسلامي في الثمانينيات والتسعينيات- بظاهرة الأدب الإسلامي، وتابعت النقاشات والدراسات النقدية عنها، ومنها كتابات المؤرخ الأديب العراقي عماد الدين خليل، والناقد المغربي محمد إقبال عروي، والطبيب الأديب المصري نجيب الكيلاني الذي جمع بين التنظير لفكرة الأدب الإسلامي وممارستها في رواياته العديدة، وفي ديواني شعره أغاني الغرباء وعصر الشهداء. كما طالعت في تلك الفترة مقالات متناثرة عن الموضوع بمجلة "الأمة" التي كانت تصدر من قطر آنذاك، بتحرير الأستاذ المفكر عمر عبيد حسنة.

 

لكني لم أجد من الشعراء المعاصرين من بلغ في تمثل الروح الإسلامية في شعره، مثل ما بلغه الشاعران، محمد إقبال ومحمد عاكف أرصوي (1873-1936)، وكلاهما لقب "شاعر الإسلام" باستحقاق.(1)  وقد تحدثت عن إقبال سلفا، أما محمد عاكف فهو مفكر وشاعر تركي عظيم، اختار البرلمان التركي منذ 100 عام إحدى قصائده لتكون النشيد الوطني للجمهورية التركية الوليدة. وقد حاز أرصوي هذا الشرف من بين 700 شاعر تركي. كما خلد أرصوي معركة "جناق قلعة" التاريخية عام 1915 في بعض روائعه الشعرية. وهي الملحمة التي أنقذت إسطنبول من سيطرة تحالف عسكري ضخم في الحرب العالمية الأولى، ضم فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصرية وأستراليا ونيوزيلندا. وتعتبر هذه المعركة -إلى جانب معركة "كوت العمارة" في العراق- آخر الانتصارات العظيمة للدولة العثمانية قبل أفولها.

 

ولم أحظ بالاطلاع الواسع على شعر محمد عاكف -بكل أسف- على نحو ما اطلعت على شعر محمد إقبال. وذلك بسبب حواجز اللغة، وزهد العرب المعاصرين في الثقافة التركية، جراء القطيعة الثقافية بين الأمتين أثناء الحرب العالمية الأولى، وما صاحب ذلك من هوس قومي متنكر للأرحام الإسلامية والإنسانية بين الأمتين.. ومع ذلك فقد تتبعت المتاح من شعر محمد عاكف بالعربية والإنجليزية، واطلعت على الجزء السابع من ديوانه صفحات، في ترجمة عربية قديمة بعنوان الظلال بقلم الأديب المصري إبراهيم صبري(2) الذي اكتفي بترجمة ذلك الجزء الأخير من الديوان الذي كتب عاكف جل قصائده خلال منفاه في مصر، ولو كان ترجم الديوان كله لكان أسدى لقراء اللغة العربية خدمة جليلة.

 

ولا تزال لدي أمنية الاطلاع على شعر كل من محمد إقبال ومحمد عاكف في لغته الأصلية، وأجد بين الرجلين قرابة عقلية ووجدانية عجيبة، حتى لكأن القارئ لشعر أحد هذين الشاعرين يحس بأنفاس الشاعر الآخر. ويدل ما وصل يدي من شعر محمد عاكف على خيال شعري خصيب، وروح إسلامية متوثبة، ومحبة عظيمة للنبي محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) عبر عنها بقوله:

 

"في ليلة من الليالي قبل أربعة عشر قرنا

ظهر من الرمال يتيم كالقمر.

ولكن يا لها من خسارة! لم تشعر به الأبصار

وقد كان الناس ينتظرونه من آلاف السنين.

وقد أنقذ الإنسانية ذلك الصبي البريء بنفخة منه

وهزم قيصر وكسرى بضربة

وقد شمل ظل جناحه كل من يطلب العدل.

إن البشر بأسرهم مدينون لذلك الصبي.

فابعثنا يا إلهي يوم المحشر على هذه العقيدة."(3)

 

ويبقى أن أقول إن شعري القليل سجل لتموجات وجداني على مدى عقود من الزمان، فلا يستغربن القارئ الكريم إن وجد فيه كل التناقضات الشعورية التي تموج بها النفس، من البهجة والتفاؤل بفجر الحياة، إلى الألم والتوجع من واقع الأمة، ومن الحب الانفعالي المتوتر في لحظة من لحظات العمر، إلى الحب "السعيد المديد" بتعبير الأديبة الروسية آنا سآكيانتس.(4)  فالشعر مجرد مرآة للوجدان في حركته الدائبة التي لا تقر على قرار. وربما يتمنى كل الشعراء لو كانت أشعارهم فضاء زاهيا من السعادة الدائمة والمشاعر البهيجة، لكن تموجات الحياة هي التي تقود قلب الشاعر في نهاية المطاف.

وقد قال الشاعر محمد عاكف أرصوي: "لو عشت في زمن الربيع لشدوت شدو البلابل".

 

ولأن الهم الأهم للشاعر والكاتب هو أن تلامس كلماته وجدان الناس، وتحرك شغاف قلوبهم، حتى ولو بعد رحيله عن الدنيا، فإني أجد خير ختام لأيامي مع الشعر أن أدعو بدعاء الشاعر الفيلسوف محمد إقبال في جناح جبريل:

 

خشوعي في عذاباتي .. ووثبي في طموحاتي

وفكري وهو بستان .. ونفسي وهي مرآتي

وقلبي وهو ميدان .. تضج به عراكاتي

ودروشتي التي تبدو .. نصيبي من معاناتي

سألتك أن تعتقها .. وتمزجها بآهاتي

وتسقيها لقافلتي .. بموكب جيلنا الآتي(5)

 

مراجع:

(1)  اشتهر محمد إقبال بلقب "شاعر الإسلام"، لكن إبراهيم صبري في ترجمته للظلال الصادرة عام 1933 في حياة إقبال ذكر أن محمد عاكف أرصوي "لقب بشاعر الإسلام في الأوساط الأدبية" (ص 8)، مما يعني أن حصوله على هذا اللقب كان قديما، شأنه شأن إقبال.

(2)  محمد عاكف، الظلال، ترجمة إبراهيم صبري (القاهرة: 1933 دون ذكر الناشر).

(3) عاكف، الظلال، 94-95.

(4)  انظر إيفان بونين، الدروب الظليلة: مجموعة أقاصيص، ترجمة عبد الله حبة (موسكو: دار رادوغا، 1987)، ص 13 من تقديم آنا سآكيانتس.

(5)  إقبال، جناح جبريل، 1/514.