على مدار الساعة

أيامي مع الشعر (8).. "أزهار الشر" في تكساس

10 نوفمبر, 2022 - 16:36
الدكتور محمد المختار الشنقيطي

من العجب أني لم أتذوق الأدبين الفرنسي والأميركي، رغم تمكني من قراءة كل منهما في لغته الأصلية، واطلاعي على جوانب من الثقافة الفرنسية، ثم دراستي بالولايات المتحدة ومقامي فيها عقدا من الزمان. وكانت لي مطالعات محدودة في الشعر الرومانسي الفرنسي، خصوصا شاتوبريان (1768-1848) وفيكتور هيغو (1802-1885)، ولا أزال أحفظ شذرات من ديوان هيغو "أوراق الخريف" (Les feuilles d’automne).

 

كما أني تناولت مارك توين (1835-1910) -الذي اشتهر بلقب أبي الأدب الأميركي- في بعض ما كتبته عن صورة المسلمين في الثقافة الأميركية، لكني لم أهتم بالأدبين الفرنسي أو الأميركي الاهتمام الذي يستحقانه. والطريف أني حينما وصلت أميركا للدراسة مطلع عام 1999 كنت أحمل في حقيبتي ترجمة عربية لرواية الإخوة كارامازوف للأديب الروسي ديستوفسكي، وهو ما يدل على أن الأدب الروسي تمكن من قلبي على فراغ، فلم يترك فيه مساحة للأدب الأميركي؛ وقد يكون سبب هذا الصدود أن هجرتي إلى الولايات المتحدة تصادفت مع تصاعد اهتمامي بالفكر والسياسة، وذبول اهتمامي بالأدب بشكل عام.

 

ما الذي يفعله ديوان أزهار الشر في لغته الأصلية بأيدي ضباط أمن بمدينة أميركية نائية لا يكاد يوجد فيها من ينطق باللسان الفرنسي؟

 

وعلى ذكر الأدب الأميركي سأحكي قصتين من الطرائف الأدبية التي عشتها خلال مقامي في الولايات المتحدة: أولاهما أن صحفيا أميركيا زارني، وأخبرني أنه يعد كتابا يتناول 100 عام من التطور الثقافي والبشري في مدينة "لباك" التي كنت أقيم بها بولاية تكساس الأميركية، وطلب مني أن أكون ضمن الأشخاص الذين يضمهم كتابه، مثالا على ظهور أطياف ثقافية وبشرية عربية ومسلمة في المدينة لم تكن معهودة في تاريخها. وفي سياق حديثنا عن اندماج العرب والمسلمين في نسيج تلك المدينة الأميركية، سألني الكاتب الأميركي عن شعوري الشخصي تجاه البيئة الاجتماعية والثقافية في الولايات المتحدة، فأجبته بأن مشاعري في هذا المضمار متضاربة، وأن حالي يشبه حال شاعر عربي قديم، هو أبو الطيب المتنبي (303-354هـ /915-965م)، الذي زار مواطن من بلاد فارس، فأعجبه جمالها، لكن جمال البلاد لم يكفكف إحساسه بالغربة الإنسانية والثقافية، وكتب في ذلك شعرا؛ فطلب مني الصحفي الأميركي قراءة ذلك الشعر بالعربية، فقرأت عليه أول بيتين من قصيدة المتنبي:

 

مغاني الشعب طيبا في المغاني .. بمنزلة الربيع من الزمان

ولكن الفتى العربي فيها .. غريب الوجه واليد واللسان (1)

 

فألح علي أن أكتب له البيتين بالعربية بخط يدي، وأن أترجمهما له إلى الإنجليزية، وصور الورقة المخطوطة، وصورني في ثوب أبيض من النوع الشائع لدى أهل الجزيرة العربية، ثم وعد بتضمين صورتي وصورة البيتين بخطي العربي في الكتاب. ولا أدري هل فعل ذلك أم لا، فقد نسيت الكاتب والكتاب بعد ذلك، لكن أبهجني يومها أن تظهر آثار من الثقافة العربية في تاريخ مدينة أميركية نائية، رغم إحساسي بالحرج من رداءة خطي الذي ربما يكون ظهر في ذلك الكتاب! وقد كنت -ولا أزال- أعزي نفسي في رداءة خطي، بأنه ليس أسوأ حالا من خط الشاعر العظيم أبي القاسم الشابي، والمفكر العظيم مالك بن نبي (1905-1973)، وكلاهما من أحب الناس إلى قلبي، ومن أعظم الأقلام تأثيرا في أفكاري ومشاعري.

 

أما الطرفة الثانية ففيها شيء من الغرابة، وذلك أن ضباطا من مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي (FBI) زاروني أكثر من مرة، وطلبوا مني العمل مع وكالتهم مترجما، وهي طريقة مهذبة في تجنيد جواسيس لهم على الجالية الإسلامية الأميركية. ولم أستغرب الأمر أبدا، فقد كنت على علم بسعي هذه الوكالة الحثيث إلى تجنيد العديد من المسلمين المقيمين بالولايات المتحدة بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول، خصوصا ممن يعملون في مؤسسات إسلامية، كما هي حالي يومها. لكن ما استغربته واستطرفته هو أن ضباط مكتب التحقيقات الفدرالي جلبوا معهم هدية لي في إحدى زياراتهم، وكانت الهدية علبة من القهوة الإثيوبية ذات الجودة العالية، وديوان "أزهار الشر" (Les Fleurs du Mal) للشاعر الفرنسي شارل بودلير (1821-1867) باللغة الفرنسية. وكنت عرفت بودلير وديوانه "أزهار الشر" -الذي هو أشهر آثاره الأدبية- من خلال أستاذ لي بجامعة نواكشوط، درّسنا مادة في الأدب الفرنسي قبل ذلك بسنين، وكان مولعا بتشريح أشعار بولدير، وفك طلاسمها ومجازاتها الرمزية.

 

بينت لهم أني تربيت على ظهور الإبل في الريف الموريتاني الفقير، وأني أستطيع العيش من دون "البيتزا" الأميركية؛ فانصرفوا بلطف، والحرج باد على وجوههم من كلماتي الصريحة، التي لم أحاول تغليفها بدبلوماسية

 

لكن ما الذي يفعله ديوان "أزهار الشر" في لغته الأصلية بأيدي ضباط أمن بمدينة أميركية نائية لا يكاد يوجد فيها من ينطق باللسان الفرنسي؟ وما الذي دفعهم إلى إهدائي هذا الديوان الفرنسي وتلك القهوة الإثيوبية تحديدا؟ لست أدري، لكن يمكنني التخمين أنهم أدركوا ولعي بالقهوة والشعر، فقرروا طرق أبواب القلب عبر هاتين الهديتين الرمزيتين. وفي كل الأحوال، فقد اعتذرت لهم وتملصت منهم بأدب، لكن يبدو أن تقديرهم قادهم إلى الاعتقاد بأني أبحث عن عرض أفضل! فجاؤوا من واشنطن بضيف من وكالة الاستخبارات الدفاعية الأميركية (DIA)، وعرض علي العمل مع وكالته "خبيرا" متخصصا في الحركات الإسلامية، وهي صيغة أخرى مهذبة لتجنيد الكتّاب للعمل جواسيس، بعد شحذ نرجسيتهم بالألقاب، مثل لقب "الخبير"، ومنحهم المال الوافر والجنسية الأميركية.

 

وبعد طول إلحاح وإلحاف، ومحاولات إغراء وإغواء، كشفت للضيف والمضيف عن شخصيتي البدوية، وبينت لهما أني تربيت على ظهور الإبل في الريف الموريتاني الفقير، وأني أستطيع العيش من دون "البيتزا" الأميركية؛ فانصرفوا بلطف، والحرج باد على وجوههم من كلماتي الصريحة، التي لم أحاول تغليفها بغلاف دبلوماسي. وانتهى الأمر برفض منحي الإقامة الدائمة بالولايات المتحدة، والتحفظ على تجديد إقامة عملي، فاضطررت لترك الولايات المتحدة في سبتمبر/أيلول 2008، وقد عوضني الله خيرا منها بالإقامة في دولة قطر بتقاليدها العربية المضيافة، وبجنسية تركيا الدولة التي جمعت محاسن الشرق والغرب، ومن ترك شيئا لله عوضه خيرا منه ولله الحمد أولا وآخرا.

 

وقبل أن أختم الحديث عن "أزهار الشر"، أشير إلى لقائي مع أحد المثقفين العرب الأميركيين في أحد المؤتمرات، أثناء الفترة التي كان فيها مكتب التحقيقات الفدرالي ووكالة الاستخبارات الدفاعية الأميركية يحاولون إغوائي وجذبي إلى صفهم، وحينما حدثته عن مساعيهم وزياراتهم المتواترة لي في تكساس لم يرد، وتجاهل الموضوع تماما، مما يدل على أنه أكثر حصافة سياسية مني، وبعد ذلك جاءني بورقة قد طبعت عليها مقاطع من قصيدة الشاعر المصري أمل دنقل الشهيرة "لا تصالح":

 

لا تصالح.. ولو منحوك الذهب

أترى حين أفقأ عينيك..

ثم أثبت جوهرتين مكانهما..

هل ترى؟

هي أشياء لا تشترى (2)

 

ثم قال "هذه هدية مني إليك". ففهمت الرسالة، وشكرته من قلبي دون لساني، ولم أعد إلى الحديث عن الموضوع معه، تجنبا لإحراجه، ومراعاة لمحاذرته المشروعة، ولا أزال أحتفظ بتلك الورقة منذ نحو 15 عاما، عرفانا بالجميل لذلك المثقف الناصح، رغم أنه لم يفعل أكثر من تأكيد المؤكد، فقراري بعدم "التصالح" مع القوم كان قد صدر من دون تردد أو لجلجة.

 

ويبدو لي أن ضباط مكتب التحقيقات الفدرالي ووكالة الاستخبارات الدفاعية الأميركية أخطؤوا التقدير مرتين: مرة حين حسبوا أنهم سيكسبونني جاسوسا لهم على المسلمين مقابل عرض زائل وزاد زهيد، والثانية حين ظنوا أني أحب الأدب الفرنسي الذي لم يلامس قلبي قط، وإن كنت لا أنكر قيمته بين الآداب العالمية؛ فكانت "أزهار الشر" التي جاء بها أولئك القوم في غير محلها، فلم تتفتق على النحو الذي أملوه.. والحمد لله على رعايته وتسديده.

 

المراجع:

  • (1)  انظر القصيدة في ديوان المتنبي، 541-545.
  • (2)  انظر نص القصيدة كاملا في: أمل دنقل، الأعمال الشعرية الكاملة (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1989)، 324-336.