على مدار الساعة

أيامي مع الشعر (1).. البواكير الشعرية الأولى

13 أكتوبر, 2022 - 17:56
الدكتور محمد المختار الشنقيطي

هذه أحاديث عن أوابد شعرية غذت ذاتي، وطرائف أدبية عشتها في حياتي. وقد كان يستهويني دائما أن يتحدث الشاعر والكاتب بضمير المتكلم، فيتيح لي الولوج إلى عوالم نفسه، وفهم حياته الباطنية، فأردت أن أنحو هذا النحو مع قرائي الأكارم. وللقارئ الكريم أن يعتبر "أيامي مع الشعر" سيرة ذاتية أدبية من كاتب شغلته السياسة والفكر عن الأدب والشعر، أو كشفا عن المخاض التكويني لنصوصي الشعرية قليلة العدد، أو مجرد إمتاع ومؤانسة، وتستر على ندرة الشعر بوفرة النثر، إذ لم يكن قرض الشعر في يوم من الأيام أكبر همي، ولا أجهدت نفسي قط في الانضمام إلى نادي الشعراء، رغم ولعي بالشعر، ووفرة ما أحفظ منه. وأدركت من مطالعاتي المبكرة في النقد الأدبي أن الشعر دفقات من الوجدان، لا يحتمل التكلف، ولا يخضع لقوانين العرض والطلب. فكان الزمن الشعري في حياتي لحظات قصيرة، تطوفني من حين لآخر في شكل ومضات عابرة، وقد يغيب ذلك الطيف الزائر سنين عددا، دون أن أستعجل رجوعه، أو أستنزل عطفه.

 

كتب الأديب الداغستاني رسول حمزاتوف (1923-2003) في صدر روايته البديعة "داغستان بلدي": "يا كتابي! كم سنة عشت في نفسي!(1) وهي جملة تعبر عن طول اختمار النص الأدبي في قلب الشاعر، وعن راحة باله حين يتحرر من عبئه، ويرمي به إلى الناس. وقدم لنا أديب العربية عمرو بن بحر الجاحظ (163-255هـ/780-869م) تصنيفا ضمنيا لأنماط الشعراء، وذلك في ثنايا حكاية حكاها تقول إن الشاعر "مالك بن الأخطل قد بعثه أبوه يسمع شعر جرير والفرزدق، فسأله أبوه عنهما، فقال: جرير يغرف من بحر، والفرزدق ينحت من صخر."(2)

 

وقد يميل البعض إلى ترجيح الشاعر الذي يغرف من بحر، لما توحي به هذه الصفة من سعة العطن، وقرب المأخذ، وفيض القريحة، وذلك كان ترجيح والد مالك بن الأخطل بعد أن وصف له نجله ذينك الشاعرين العظيمين. وقد يرجح آخرون الشاعر الذي ينحت من صخر، لما توحي به هذه الصفة من طول النفس، وتعتيق النص، وبراعة الصنعة، وهذا ترجيح عدد من النقاد الأقدمين والمعاصرين. ولا أستطيع تصنيف نفسي ضمن أي من الصنفين؛ فلست أنتمي بداهة إلى الشعراء الذين يغرفون من بحر، أما الذين ينحتون من صخر فلا أستطيع الادعاء أن شعري يرقى إلى شعرهم، وإن جمعت بيني وبينهم قلة الشعر وندرة كتابته.

 

ومهما يغرف الشاعر من بحر، أو ينحت من صخر، فإن خير الشعر ما جاء فيضا من الخاطر، ودفقا من الوجدان، دون تكلف ولا تعسف؛ فليس الشعر صنعة منطقية بمقدمات ونتائج، ولا تفكيرا علميا بمنهجيات باردة، بل هو فيض شعوري من أعماق النفوس. كما أن التعبير عنه يحسن أن يكون بلغة الإيماء والإيحاء، لا بالأسلوب التقريري البارد، وقديما قيل "إن لغة الشعر لا تصلح لدار القضاء". ونظرا لهذه الطبيعة الوجدانية والإيحائية، فإن الشاعر قد لا ينتبه أحيانا إلى المعاني الخفية والدلالات المكنونة في شعره، حتى ينبهه إليها القراء النابهون، وقد حدث معي شيء من ذلك أكثر من مرة، ومن أمثلته أني لما كتبت قصيدتي "دموع الندى" قرأتها على صديقي الطبيب الأديب اليمني الأميركي الدكتور زهير شهاب، وهو من خيرة النبلاء، ونوادر الأذكياء، وحينما وصلت إلى هذين البيتين:

 

سندفن آلامنا في الحشا .. ونكتم آهاتنا في الصدور

ونعبر للنور ملء الخطى .. ونبذل أرواحنا في العبور

 

سألني الدكتور زهير ضاحكا: "هل تقصد العبور في حرب رمضان 1973″؟ فقلت: "لا والله ما قصدت ذلك العبور في ذاته، ولا خطر في بالي حين كتبت القصيدة، لكن يبدو أن عبور رمضان 1973 تسرب إلى عقلي الباطن دون تفكير مني".

 

لقد بدأت قرض الشعر وأنا شاب يافع لا يتجاوز عمري 15 عاما تقريبا، لكن جل ما كتبته آنذاك -رغم أنه محكم النسج من حيث الوزن والإيقاع- كان شعرا تقليديا خشنا، يسود فيه تقليد الأقدمين تصويرا وتعبيرا؛ لذلك لم أعبأ به، ولم أضمنه ديواني الصغير "جراح الروح"، بل أهملته نسيانا أو تناسيا، لعدم اقتناعي بقيمته الأدبية. ومن قصائد تلك المرحلة المبكرة من حياتي قصيدة نسيب رجزية كتبتها شوقا إلى قريتي الوادعة (الجريف)، وبدايتها:

 

حي منازل "الجريف" وانزل .. به فنعم أهل ذاك المنزل

وبـ"الهضيبات الثلاث الصفر" قف .. و"مشعب الجند" و"قلب الجمل"

 

والقصيدة مكتوبة على النهج القديم الذي يعدد فيه الشاعر العربي منازل الأحبة، ويقف على أطلالهم ومواطن نجوعهم. ومن المواطن المذكورة هنا "قلب الجمل" (3) وهو هضبة زرقاء جميلة تبعد عن قريتنا نحو 10 كيلومترات، و"مشعب الجند"(4) وهو مضيق في حضن "قلب الجمل"، وسمي بهذا الاسم لأن أحد القادة المقاومين للاستعمار الفرنسي من منطقتنا، هو المرحوم الشيخ ولد عبدك (ت 1958) أخذ فيه جمعا من الجنود الفرنسيين على حين غرة، وقتل منهم مقتلة لا تزال ذكراها حية في أذهان أهل قريتنا رغم مضي أكثر من قرن عليها. وقد أخبرني خالي محمد رحمه الله بتفاصيل هذه الوقعة نقلا عن قائدها البطل الشيخ ولد عبدك الذي حدثه عن تفاصيلها وجها لوجه، ووصف له مطاردته جنود الاحتلال الفرنسي في شعاب الجبل الأشم الذي يفصل قريتنا عن مدينة "النعمة"، حيث كان المركز الإداري للسلطة الاستعمارية الفرنسية.

 

وأُسر البطل الشيخ ولد عبدك مع أخيه الزوين وأبيه محمد الذي كان القائد العام للمقاومة في منطقتنا، وحكم عليهم الفرنسيون بالنفي إلى دولة ساحل العاج التي كانت مستعمرة فرنسية آنذاك، حيث توفي الوالد والأخ في المنفى، ورجع الشيخ لموريتانيا بعد إخماد المقاومة العسكرية.

 

وتربيت وأبناء قريتي على الترنم بالأغاني الشعبية التي تخلد تلك الوقعة في "مشعب الجند" قرب قريتنا، وغيرها من وقائع المقاومة. ومنها أغنية تمجد عملية جريئة استطاعت فيها المقاومة قطع خيوط التلغراف الفرنسية، ولا تزال كلمات تلك الأغنية تتردد في ذاكرتي إلى اليوم، وهي تنفذ إلى شغاف القلب بما فيها من عمق وصدق، رغم بساطة كلماتها. وربما يصدق عليها قول الشاعر محمد إقبال في قصيدته عن نهر قرطبة:

 

وأغنية ابنة الفلاح .. تطرب رغم ركتها

برقتها إذا غنت .. وآهتها وأنتها (5)

 

وقد اعترف الضابط والمؤرخ الفرنسي بول مارتي (1882-1938) بعملية ناجحة ضد خطوط التلغراف الفرنسية بقيادة أسرة آل عبدك في أبريل/نيسان 1916، وبأن قوات المقاومة "أتلفت خط التلغراف على مسافة طويلة نسبيا."(6) فلعلها هي العملية التي تحيل عليها كلمات تلك الأغنية الملحمية الجميلة.

 

كما اعترف مارتي بوفاة الأسيرين محمد ولد عبدك والزوين ولد عبدك في المنفى بسبب المرض والإهمال الطبي. وكان الفارق بين وفاتهما 10 أيام فقط، حيث توفي الوالد في الثاني من فبراير/شباط، والولد يوم 12 فبراير/شباط 1918، رحمة الله عليهما.(7) وإنما استطردت في القول إكراما لأرواح ذينك الشهيدين المنفيين، وأخيهما البطل. فموضوعنا هنا هو الشعر والأدب، ويكفي أن أقول إن تلك الأغاني الشعبية كان لها أثر عميق في ذاتي، فمنها عشقت الشعر الملحمي، ومنها اكتسبت الأذن الموسيقية التي لا غنى عنها لكل من يكتب الشعر.

 

المراجع:

 -(1) رسول حمزاتوف، داغستان بلدي، ترجمة: عبد المعين الملوحي ويوسف حلاق (دمشق: دار نينوى، 1915)، 12.

 -(2) عمرو بن بحر الجاحظ، البيان والتبيين (القاهرة: مكتبة الخانجي، 1988)، 2/117.

-(3) نطقه باللهجة الحسانية -وهي اللهجة العربية السائدة في موريتانيا ومنطقة الصحراء الكبرى- هو "گلب الجمل"، إذ يسمي الموريتانيون الهضبة متوسطة الحجم "قلب"، وينطقونها بالكاف السبئية (گ).

-(4) اسمه بالحسانية "شلخة الصنادره"، والكلمة الأولى عربية الأصل، يقال شلخه بالسيف أي قطعه، والثانية يبدو أنها تعريب لكلمة "الجنود" (soldats) الفرنسية. و"المشعب" في العربية الطريق، خصوصا إذا كان منشعبا عن غيره. قال الكميت: ومالي إلا آل أحمد شيعة   ومالي إلا مشعب الحق مشعب

-(5) محمد إقبال، ديون جناح جبريل، ضمن مجموعة دواوينه (دمشق: دار ابن كثير، 2007)، 1/481.

-(6) انظر: بول مارتي، القبائل البيضانية في الحوض والساحل الموريتانيا وقصة الاحتلال الفرنسي للمنطقة، ترجمة محمد محمود ولد ودادي (بنغازي: جمعية الدعوة الإسلامية العالمية، 2001)، 114.

-(7) انظر: مارتي، القبائل البيضانية، 115.