على مدار الساعة

المروءة في قضاء المجلس الدستوري

12 يوليو, 2018 - 18:09
المحامي / محمد سيدي عبد الرحمن إبراهيم

يرى محمد سالم ولد عدود، رحمه الله، بأن المروءة عند العرب ترادف مفهوم الإنسانية، فالمرء من المنظور اللغوي هو الإنسان الذي تناط به المروءة مثلما تقترن الإنسانية بالإنسان. وتعد رأفة الإنسان بمثيله من القيم الإنسانية المشتركة التي بدأت البشرية تتنكر لها كما تعكسه قوانين محاربة الهجرة التي تهدف إلى صد الضيوف الجائعين الزاحفين من الجنوب عـن موائد الشمال المغرية.

 

وقد وصلت الأنانية حد تجريم الإحسان للضيوف ففي فرنسا مثلا كان القانون الفرنسي يقضي بإدانة من يساعد أي مهاجر "غير شرعي" بعقوبة قد تصل حبس خمس سنوات وغرامة 30.000 يورو (أكثر من 12 مليون أوقية قديمة) قبل أن يعلن المجلس الدستوري الفرنسي، يوم الجمعة الماضي (6 يوليو 2018) قراره بعدم دستورية ذلك التجريم بالانطلاق من مبدأ الأخوة المقرر ضمن شعارات الجمهورية الفرنسية المثبتة في المادة الثانية من الدستور.

 

وبالنظر لحيثيات قرار المجلس الدستوري الفرنسي ومناطه أتمسك بأنني سبقته في معالجة الموضوع وطرح أساسه القانوني عندما عرضت علي قضية مماثلة نشرت فيها، منذ قرابة سنة، مقالا تحت عنوان "التجريم السياسي في موريتانيا" (نشر بتاريخ 17 أغشت 2017) بينت فيه أن عقاب مساعدة المهاجرين يجرد التجريم من طابعه الأخلاقي الأصيل ويكسبه طابعا سياسيا مصطنعا كما اصطنعت الحدود. وأعتقد أن مقالي المذكور وجد صدى في قضية السيناتور محمد ولد غده فعندما أصدرت النيابة بيانها الشهير حول متابعته (يوم 18 أغشت 2017) ضمنته اتهامه بـ"التخطيط لارتكاب جرائم منافية للأخلاق والقيم السائدة في مجتمعنا".

 

وأتناول في هذه المعالجة قرار المجلس الدستوري الفرنسي بعدم دستورية تجريم مساعدة المهاجرين (1) قبل أن أبين أن جهود بعض الدول في القارة العجوز أدت لسن تشريعات وطنية لم تخضع للرقابة اللازمة وأدت لعقوبات غير ملائمة (2) وأنقل مآخذ نشرتها منذ سنة تتعلق بقانون الهجرة غير الشرعية في موريتانيا (3) وأبين مأساة متهمين أدينا بسببه (4) وأخلص لبعض المقارنات (5).

 

1.

في يوم الجمعة الماضي، 6 يوليو 2018، أعلن المجلس الدستوري الفرنسي قراره رقم: 717، 718 /2018 الذي يشكل ضربة قاضية لمحاربة ما يسمى بالهجرة غير الشرعية حيث ألغى جنحة التضامن délit de solidarité التي كانت تمنع الكثيرين من الرأفة بالمهاجرين وإيوائهم وتم الإلغاء على أساس مبدأ الأخوة Principe de Fraternité المقرر ضمن شعارات الجمهورية الفرنسية بموجب المادة الثانية من الدستور وهو قرار ستترتب عليه مراجعة جذرية لقوانين محاربة الهجرة في فرنسا التي كانت تقرر عقـوبات تصل لحبس خمس سنوات وغرامة 30.000 يورو. وقد صدر القرار بناء على إحالة من الغرفة الجنائية بمحكمة النقض على أساس طعن بعدم الدستورية مقدم من طرف المزارع سيدريك هيرو Cédric Herrou وآخرين.

 

ففي يوم الثلاثاء 8 أغشت 2017 أدانت محكمة الاستئناف في إكس آن بروفانس Cour d’Appel d’Aix-en provence الطاعـن سيدريك هيرو Cédric Herrou بالحبس أربعة أشهر مع وقف التنفيذ بسبب نقل 200 مهاجر (إرتيري وصومالي) وإيوائهم في ضيعته الواقعة على الحدود الفرنسية الإيطالية في مكان بات الآن تحت حراسة مشددة من عناصر الدرك الفرنسي. وبعيد الحكم صرح المدان بأنه لن يتوقف عن مساعدة المهاجرين المطاردين على الحدود وأن من الأجدر تنفيذ العقوبة عليه دون تأخير. ولكن جهود هيرو أثمرت برفع الحرج عنه وعن غيره.

 

2.

المؤسف أن جهود محاربة الهجرة لم تقف عند حدود أوروبا فقد زرعتها سلطات القارة العجوز وتعهدتها في مناطق تفتقر للرقابة التشريعية وكثيرا ما تخلف فيها العدل وخضع القضاء مما أدى للمساس البالغ بحقوق كل من يتجاسر على مساعدة عابري السبيل لكي يرتدع غيره. ففي موريتانيا صدر قانون استثنائي لمحاربة الهجرة يقيد السلطة التقديرية للقضاة في وقف تنفيذ العقوبات ويعطل مبادئ الإجراءات الجنائية التي تقتضيها المحاكمة العادلة وهو قانون تم تمريره على حين غفلة من المجلس الدستوري الموريتاني وصدرت بناء عليه أحكام قاسية منها الحكم بإدانة موكلي فراحي ومحجوب بالسجن ثلاث سنوات نافذة وبغرامة خمسة ملايين أوقية على كل منهما وهي عقوبة كان سيترتب عليها بقاؤهما في السجن لولا عفو رئاسي صدر بمناسبة عيد الفطر الماضي.

 

3.

من أحدث النصوص الجنائية الموريتانية القانون رقم: 012 – 2010 الصادر بتاريخ: 15 فبراير 2010 المتعلق بمكافحة تهريب المهاجرين غير الشرعيين (وأحجب عنه تسمية المعروف التي أتمسك بملكيتها الفكرية) الذي نشر في عــ1214ـــــــــدد الجريدة الرسمية الصادر بتاريخ 30 ابريل 2010 وهو قانون استثنائي يذكر البعض أنه نتاج التفاهمات التي اكتنفت الاعتراف الأوروبي بانقلاب أغشت 2008.. لست متأكدا ولكن من الجلي أن هذا القانون الذي يستند على خلفية سياسية، بعكس نصوص التجريم ذات الجذور الأخلاقية، تضمن عقوبات حطمت الحدود القياسية وقرر استثناءات غير مقبولة على معروف الإجراءات الوطني ولذلك أعتقد أنه مرر على حين غفلة من الحقوقيين وأشك فيما إذا كان البرلمانيون ناقشوا فحواه ولذلك أدعو كل من يهمهم الأمر من سلطات وهيئات مدنية للعمل على مراجعة عقوباته التي تصل إلى عشر سنوات سجنا وغراماته التي تبلغ عشرة ملايين أوقية وتسلط غالبا على الفقراء (المادة: 4) كما أدعو لإعادة النظر في تقييده لمعروف الإجراءات الوطني بإلغاء ما تضمنه من منع وقف تنفيذ العقوبات الذي تخوله الإجراءات للقضاة في حالات معينة (المادة: 33) وحسبكم أن عقوباته تتجاوز الحدود المقررة لاستخدام السلاح ضد القوة العمومية أما غراماته فمن أرفع ما يقرره معروف العقوبات لأنها قد ترتفع إلى مائة مليون أوقية (المادة: 13).. ولأن المقصد الأول من قانون مكافحة تهريب المهاجرين هو منع جياع الجنوب من التطفل على موائد الشمال، يمكن أن نحكم بأن هذا القانون يشجع الشح ويفتقد للأساس الأخلاقي وبناء عليه حكم على شباب في مقتبل العمر بسجن لا يتوقع خلاصهم منه.. وكي لا أبقى محلقا في الفضاء النظري أقترح على القراء شد الأحزمة لأننا سنهبط في ساحة الواقع لزيارة بعض ضحايا هذا القانون الاستثنائي.

 

4.

عندما طالعت ملف محجوب وتعهدت لأسرته بالدفاع عنه حسبت أمره سهلا هينا فسرعان ما عثرت على حجج اعتقدت أنها كافية لإقناع المحكمة بإطلاق سراحه فتهمته لا تتعلق بنشاط احترافي منظم في التهريب ولا بشبكة عابرة للحدود والوقائع المذكورة في ملفه هي مساعدة مجموعة من المواطنين السوريين على التسلل من انواذيبو في اتجاه المملكة المغربية مرورا بالصحراء الغربية ومما يضعف التهمة أن المتسللين مروا بنقاط التفتيش الأمنية التي يعسر على الخارج من انواذيبو أن يتجنبها.. حصلت على اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بوضع اللاجئين لسنة 1951 ووقفت على ما يثبت انضمام موريتانيا إليها سنة 1978 بعد المغرب الذي انضم سنة 1956.. وكنت مسلحا بما يكفي عندما نادت المحكمة الجنائية في انواذيبو على المتهمين.. تبينت أن المواطن المغربي فراحي المشمول في نفس الملف مع موكلي بذات التهمة لم يتمكن من تأمين دفاع، بالنظر لضيق ذات اليد، واعتبارا لعدم تعارض دفاعه مع مصلحة موكلي فقد تطوعت بمؤازرته.. تركزت خطتي في الدفاع على إقناع المحكمة الجنائية - المشكلة من خمسة أعضاء (ثلاثة قضاة ومحلفان) يتخذ ثلاثة منهم القرار بعد اقتراع سري - بأن المعاهدات الدولية المصادق عليها أسمى من القانون (م 80 من الدستور) وأن اللاجئ في مفهوم القانون الدولي لا يعد مهاجرا غير شرعي وبالتالي فإنه غير مشمول بإجراءات محاربة الهجرة بل على العكس يستحق اللاجئ الرعاية والاهتمام الدوليين وأردفت بأن السوريين، فرج الله كربتهم، لاجئون بامتياز طردتهم الحروب الطاحنة من بلاد الشام وأنهم يستحقون إكرام العرب لأن معابرهم كانت مفتوحة دون قيد أو شرط أمام كل المنتمين للدول العربية.. وبينت أن الرفقة السورية وإن كانت متجهة إلى الشمال في عصر الهجرة إليه إلا أن خط مسارها الذي توبع بسببه موكلاي كان بين حيين عربيين (موريتانيا والمغرب) وأنها لم تكن قد شدت الرحال إلى حدود المملكة الإسبانية المحروسة.. استشهدت بقول الله سبحانه وتعالى {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} الآية 15 من سورة الملك وتناولت ما ورد في تفسيرها قبل أن أعرج على المادة: 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ولم أنس أن أثير حرية التنقل المضمونة بموجب المادة: 10 من دستور الجمهورية الإسلامية الموريتانية، وأن أستشهد بأبيات من الشعر.. وتناولت المادة: 4 من قانون مكافحة الهجرة، التي تم التكييف على أساسها، لأبين أنها تتضمن عبارة "يمارس" التي تفيد الاعتياد والتكرار ونبهت إلى أن المنطقة التي دخلها اللاجئون، وأرجعتهم القوات المغربية منها، موضوع نزاع في السيادة بين المملكة المغربية والجمهورية الصحراوية كما يعلم الجميع.. واجتهدت لتقديم وسائل الدفاع شفهيا وضمنتها في مذكرة مكتوبة.

 

ولأني كنت أعتقد بأن حججي مستساغة وأن مرافعتي كانت ناجحة توقعت الفرج لدرجة أنني كنت أتمثل الفرحة المحتملة للشابين عندما يتقرر إطلاق سراحهما.. ولكن المحكمة خيبت ظني بإدانتها للرجلين بخمس سنوات ثلاث منها نافذة وبحكمها على كل منهما بغرامة خمسة ملايين أوقية وقد تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.. طعنت بالاستئناف وقدمت أمام محكمته مرافعة شفهية لم تكن دون سابقتها وتقدمت بمذكرة مكتوبة فأعادت الهيئة الخاصة (المشكلة من خمسة قضاة) الكرة وأكدت الحكم القاسي الذي أصبح نهائيا. وطعنت بالنقض أمام المحكمة العليا. ولحسن الحظ استفاد محجوب وفراحي من عفو رئاسي صدر بمناسبة عيد الفطر.

 

5.

محجوب وفراحي شابان في عمر سدريك وبينما أدين الأوروبي المقتنع بضرورة التحدي والعمل على مساعدة المهاجرين بأربعة أشهر موقوفة بسبب إيوائه 200 مهاجر إفريقي في ضيعته الواقعة على الحدود الفرنسية الإيطالية أدين الموريتاني والمغربي بثلاث سنوات نافذة بسبب مساعدة عابرة للاجئين سوريين على محاولة اجتياز الحدود الموريتانية إلى الصحراء الغربية في موسم الهجرة إلى الشمال وعلى الرغم من أنني طعنت بالنقض لصالحهما وقدمت للمحكمة العليا دفوعا أزعم أنها ليست أقل إقناعا من دفوع زميلي اباتريس اسبينوزي Patrice Spinosi أساسها أن اللاجئ لا يمكن أن يصنف بأنه مهاجر غير شرعي وأن ثمة اتفاقيات دولية تتعلق بحمايته.. إلا أن زميلي كان أوفر مني حظا لأنه وجد من يناقش دفوعه ويرتب عليها أثرا.